وإليك يا أرض البهاء… أعود…* |
وادي البهاء مسقط رأسي… وأرضي… وأرض آبائي من قبل… وأبنائي من بعد… على بعد كيلومترات معدودة إلى الشرق من مدينة غزة تقع ضمن النقب… تتبع قضاء بئر السبع. لواء غزة حسب التقسيم الإداري البريطاني… تركتها في التاسعة من عمري في عام 1948…. مرغماً وفي عام 1993 عدت إلى غزة بعد غيبة 27 عاماً… وزرت وادي البهاء… وكأني بها بالأمس… فكانت هذه الكلمات "وإليك يا أرض البهاء… أعود…" اليوم أعود إليك يا وطني… بعد غيبة من العمر طويلة. اليوم… أعود إليك يا وطني.. لا كما كنت أهوى… ولا كما كنت أطمح … ولا كما كنت .. أحلم. لا على ظهر دابة… ولا على صهوة طيارة…ولا في جحافل… مشاة . لا مرتفع الهامة… ولا منتصب القامة…ولا منتصراً… كما كنت أحلم… ولا… ولا…. وألف ولا…. ولكني اليوم إليك يا وطني… أعود… لا تسلني… كيف ؟؟ فقد تشعبت الطرق… وتنوعت المسارب… وتعرجت الدروب… ولم يعد الخط المستقيم أقرب الطرق إلى الهدف. في صحراء قاحلة تهت… في الوديان تهت… في الجبال تهت… لم أصل إلى القمة.. ولا حتى إلى السفـــــــــــــــــــــح… ولكنــي… إليــك يا أرض البهــاء… وصلت… لا تسلنـي…. كيف… ولكني إليك يا وطني وصلت… تناسيــت يا وطني… كل الأغاني… وكل الأمانــي وتناسيت يا وطني… هدير الميكروفونات… والإذاعات وتنظير الأحزاب… والتنظيمات… وخطب الزعامـات. ووعود الانقلابات… وأمجاد القيادات… وبيانات الحكومات. وتناسيت ما كتب… وما خطب وما صرح وتناسيت… وتناسيت… كل القرارات الدولية… والقمعية…و….و....و.... ولكني ما نسيت يا أرض البهاء أنك مهبط الرأس… وما نسيت يا أرض البهاء… إنك ملاعب الطفولة… وما نسيت يا أرض البهاء ربوعك الخضر ومراعيك الحسان… ما نسيت هدير الوادي في الشتاء المطير… وخرير الجداول… وغدران المياه… ما نسيت ربيعك يا بلادي… ما نسيت شقائق النعمان… ولا أشواك "المرير" ولا ضلوع الصبر… ولا رفوف "الزرازير"… ولا هديل الحمام… ولا جموع الوز… ولا أسراب القطا… ما نسيت قبرات الحقل… ولا خيلاء الهدهد… وفراشات الحقول…. يا وطني… أنا ما نسيت سنابل القمح وهي تتمايل في مروجك الغناء… ولا عناقيد العنب… واللوز في كرومك المزهرة. أنا ما نسيت ولن أنس قطيع الأغنام وهي ساربة… وهي غادية وهي رائحة... وهي رائحة… لن أنسى ثغاء الحملان… وكل الأنغام… لن أنسى الجمال وقد حملت… أحمالا.. قطار يسير الهوينى ولن أنسى أيام الحصاد… وجمع الحبوب… "ومطامير". القمح… "وكمور" القش… مخازن للشتاء… يا أرض البهاء… لن أنس لياليك… القمرية وهالاتها… وزمهرير الشتاء ولياليه حالكة السواد… وصوت ابن آوى… وعواء الذئب… من بعيد… وشقشقة العصافير في الصبح الباكر… أنا لن أنسى يا وطني… كل تلك الذكريات… لأنها جز من حياتي… من دمي… من لحمي… سأزرعها في بني ومن بعدهم… سأزرع فيهم حبك يا وطني…يا مسقط الرأس… يا أرض البهاء… إليك أعود….بعد سنين عجاف… سنين يابسات… وسنين خضر… وسنين عطاء.. بعد سنين من العطاء العربي… وبعد سنين من الانحدار العربي والشح العربي… سنونٌ من الوحدة… والانفصال… والانعزال… والتآمر والضلال… والتضليل… بعد سنين من الغربة… عدت … لا كما حلمت ولا كما كنت أهوى… ولكني عدت… لأني ما نسيت ولن أنس، ولكني من الغربة تعلمت .{ يا ولدي… في أرضك أبذر.. وأزرع.. وفي أرض غيرك لا تزرع… فذاك زرعك ومنه تحصد} يا ولدي في أرضك إبني وعَمّر… واصمد… وفي أرض غيرك لا..لا…تفعل.. يا ولدي بين أهلك عش ولا تغترب.. إنك بعد الغربة الطويلة ستعيش غريباً… وستصحو يوماً… ترحل وتطرد.... سنون عمرك يا ولدي في غير وطنك لا تفنيها… ولا تصدق معسول الكلام… فعند الشدائد كل شئ… يبين ويظهر. واليوم يا أرض البهاء إليك… أعود يا من فيك ... فتذكرت مراتع الغنم… ومرابع الغنم… وتذكرت فيك قصوراً صارت أطلالاً وتذكرت فيك هراب… الماء…مورداً يسقى العطاش ... وتذكرت فيك مدرسة "الكتاب"... بداية التعلم والتعليم ... وتذكرت فيك ملاعب الصبا… نبع الكبرياء… كرامة الرجال.. وإشراقة الشمس ونسيم الهواء… وإن تناسيت يوماً… فلن أنسى… أنك أرضي… وأرض جدودي من قبل ومن بعد وإليك… إليك يا أرض البهاء أعود… *يوم عدت زائراً عابر لمسقط رأسي في أرض البهاء.
25/12/1993م أحمد حسن الإفرنجي |