" اتفاق إعلان المبادئ باختيار غزة أريحا أولاً"
أنه لا يرضيني
ولكني لا أرفضه

بقلم: أحمد حسن الإفرنجي

 انطلقت الأصوات بين مؤيد ومعارض، وبين مناهض، ورافض.. وآخر صامت "لاتفاق غزة- أريحا أولاً" ولست أدري على أي شيء اعتمد الرافضون والمعارضون والمناهضون، كما وأني لست أدري على أي شيء أعتمد المؤيدون.ولماذا صمت الآخرون.هل لأن الصمت أقوى من الكلام؟ أم أن الصمت صمت القبور، أم أن الصمت والكلام في حاجة لترجمة في بعض الأحيان. لقد عشتُ فلسطين التي أعرفها صغيراً، وعاصرت الإرهاب اليهودي والبريطاني.. وعاصرت الحرب الأولى والثانية طفلاً، يافعاً، وكبيراً، عايشت وسمعت وقرأت.

عاصرتُ الرجال المدافعين عن وطنهم ببنادق صدئه،وعاصرت الفارين من وجه المجازر اليهودية، وعاصرت النداءات العربية "لتُتركَ الساحة للجيوش العربية المُدربة لتلقي باليهود البحر".

عاصرتُها مندفعة لتحرير كامل التراب الفلسطيني، عاصرتها متهمة إيانا بالتخاذل والجاسوسية وبيع الأرض، وعاصرتها مولية الأدبار منحدرة من مواقعها مهزومة، وعاصرت تبريراتها وتسليمها الأرض أرضي أنا لليهود عاصرت المجاهدين والشهداء الذين جاءوا لله وفي الله من أجل الشهادة في أرض الأنبياء. عاصرت النازحين، واللاجئين، والخيام الممزقة، وطوابير التموين، وحليب الإغاثة، وزيت السمك. عاصرت قطار الرحمة. ولم يزل يرن في مسمعي صوت أخي جاوز الظالمون المدى.

عاصرت المتاجرين بدم الشهداء والمانين دون عطاء.

عاصرتُ تحويل الهزائم إلى نصر مؤزر، والفارين إلى ليوث للوغى عاصرتُ صفير الرياح في خيامنا، وعلى ضوء سراجٍ راقصٍ قرأنا، وعلى الأرض، وتحت ظل الشجر راجعنا دروسنا.

بحفنة دقيقٍ تعلمنا وعلمنا، وانطلقنا ننهل من العلم ما استطعنا من شرقه وغربة. من عربه وعجمه.وأصبحنا من أعلا نسبة في شعوب العالم تعليماً.

وعاصرتُ طغيان سلاح الحدود، وفرسان البادية، ورجال الدرك، والمخابرات......

عاصرتُ الأملَ الأول لانطلاقة الفدائيين. يوم أن انطلقوا في عام 55 لزعزعة الاستقرار داخل أرضي " أرض الأعداء" ومن بين الرُكام والُحطام نهضنا لنبلغ الرسالة.

وهمنا في الصحاري والقفار، ننشد الرزق ونبذر الحَبَ والحُب ونربي الأجيال، ونشّيد البنيان.. همِنا في الأدغال، وخضنا في الأوحال، والمستنقعات دون أن نفقد الأمل من نازحين إلى لاجئين إلى عائدين دون أن نفقد الأمل في العودة العودة العودة.

عاصرت حرب عام 1956 وانتصار بني إسرائيل وأتباعهم، وانسحاب بني إسرائيل.

عاصرت نصراً ما صنعناه. عاصرت انبعاث الأمل في الحركات القومية والإقليمية والنخوة العربية والأمل الضائع، والوقت الضائع،والعميل الضالع.

بُحت حناجرنا من الهتاف لهذا الزعيم وذاك، وتأييد هذا الثائر، وهذا المغامر، وحتى المقامر.

عِشت الأمل في انقلاب وإلى انقلاب. حتى ظننا أن انقلاباً في أعماق إفريقيا رافد لعودتنا.

وجاء الأمل في انطلاقات جديدة.. سرعان ما صحونا على حقائق غير ما أعلنت عنها وفقدنا المال والبنين،والكثير الكثير.

عاصرتُ الخُطبَ الرنانة، والكلمات المنمقة، والجمل الواعدة، والصفحات المبهمة،والكلمات المطاطة. عاصرتُ قرارات الأمم المتحدة.. ومجلس الأمن "والفيتو" ودموع التماسيح.. والكلام المعسول.. والسم الزعاف.. وطعنات الخناجر في الظهر.

عاصرتُ ترومان وروزفلت من قبل، وايزنهاور، وكيندي، وصولاً إلى كلينتون.*

عاصرتُ ستالين، وبولجانين، وخروتشوف، وصولاً إلى غورباتشوف ويلتسن،ولم يتغير لهم قرار.. فخطاهم مرسومة منذ زمن بعيد بعيد.

عاصرت القرارات الدولية واللادولية، والانحياز وعدم الانحياز، والجامعة العربية والجامعات الإسلامية..

عاصرت زعماء صعدوا وآخرين انحدروا.. أو قتلوا. عاصرت الشعارات الرنانة.. والطبول الجوفاء.. والحان القوة والألحان الجنائزية.

عاصرت الهبات والمساعدات من أجل التحرير، وعاصرت صفقات الأسلحة بالمليارات،وإن سُئلوا.. فإنها من أجل التحرير" ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً".

وعاصرنا وعُصرنا في المعتقلات والسجون، مات من مات، وعذب من عذب.

الأبطال خونة،والخونة أبطالاً.يا لها من سكرات كنا نحسب السراب ماءً.كنا نفرح لمن يدفع للتحرير ريالاً وفوجئنا بمن يدفع للتحرير مليارات ليست لنا...*

عاصرت عهد الظافر، والقاهر. وعاد الأمل وعادت الهزيمة عام 1967 وضياع كامل التراب، تراب فلسطين كل فلسطين.. ولم نكن نحن عنه بمسؤولين.

فلم يكن الأمر بيدنا.. وكان السلطان ضدنا.. وتجددت الاتهامات، وقرارات الأمم المتحدة هي القرارات، ولا تطبيق ولا مطالبات بالتطبيق.والفيتو لم يزل يطاردنا يلاحقنا.

وجاء الأمل وجاءت حرب 1973 فمنهم من قال أنها حرب تحرير ومنهم من قال أنها حرب تحريك، ومنهم من قال أنها النصر الكبير،ومنهم من قال وقال...و لكنها لم تعد لي شبراً من أرض.والقابع هناك في الخيمة أو المخيم.. ينظر من بعيد هل تعود بلدي. هل أعود وصار موكب السلام. وبدأ السلام. وأي سلام. وتمزق العرب الكرام وصار هناك الصامدون. وهناك المتآمرون، والمتخاذلون، والصامتون، " وقميص عثمان لم يدفن مع عثمان" والمقدسات تتولى أمرها الجرافات. وما زال المذياع هو المذياع و سوق عكاظ..و الكلام كلام.

عاصرت مؤتمرات القمة.من الرباط إلى الإسكندرية و القاهرة و عمان و الرياض و الخرطوم مؤتمرات سميت بأسماء رنانة و كان التصوير فيها أهم الخطوات، و القبل أكبر القرارات...و لم يزل في ركن حجرتي يقبع المذياع و التلفاز و الإعلام الرسمي يركز على اللاشئ كلمات و كلمات... كلام في كلام. و التقت وجهات النظر.

قُتلنا في عمان، وجرش، وسورية، ولبنان.. ولوحقنا في كل مكان في الخليج وفي المهجر.. قتلنا اجتماعياً، وسياسياً، وإنسانياً، فأصبح العامل في بلده متآمراً، وأصبح العائد لأهله ولسربه إقليمياً عفناً. وركبنا البحر فراراً، أو انتصاراً. وجاءت الطامة "يوم يفر المرء من أخيه..." يوم سولت النفس للأخ قتل أخيه وتوالت الأحداث يوم جاءت حرب النفط، أرادتها أمريكا فأدارتها. وتناسى الأخوة صفاء الإسلام ونقاء الإسلام. فصار الصدام والحرب الإلكترونية. والإعلامية والعنجهيات الكاذبة، فتآمر من تآمر، وضاع وسط الصمت صوت العقل.. وضاع الحل العربي.. وضاعت الأموال العربية. * (650 مليار) وضاعت الأخوة الإسلامية والنخوة العربية واتُهم الأبرياء.. ومُجد الخونة والعملاء والأعداء. وضاع بين الأشلاء صوت العقلاء.*

رصدت المليارات لإعادة الكويت. كما دفعت المليارات من قبل لتحرير أفغانستان (18 مليار) وجند الإعلام وجند العالم بأسره لأن صاحب القرار من خارج الدار.. أما من أجل فلسطين مهبط الديانات، ومسرى الرسول، " والأرض التي بارك الله حولها" فلم نسمع عن مطالب بتطبيق القرارات الدولية.. يا لها من قرارات زادت عن المئات المئات.(ما لها أليات)

وقد يقول قائلهم لقد دفعنا نعم. دفعتم لتحرير فلسطين ثلاثة مليارات خلال ثلاثين عاماً وتاجرتم بها ومننتم بها. بل مننتم بدم من استشهد على أرض فلسطين، يا للعار. حتى دم الشهداء صار تجارة.. فهل بالله عليكم بثلاثمائة مليون سنوياً لم يدفع بعضهم وحجب بعضها، هل تحرر فلسطين من اليهود الذين أعطتهم أمريكا منذ قيام دولتهم حتى تاريخه (150 مليار دولار وأكثر) وسنوياً تمنحهم 3 مليارات غير الهبات، والمساعدات، والضمانات والقروض، هذا غير التعويضات الألمانية والتي تجاوزت (70) مليارا.

هل كانت الأهداف مرسومة، والخطوات مدروسة، من حرب إلى حرب، ومن حصار إلى حصار، لنصل إلى ما قاله نيكسون رئيس أمريكا الأسبق وخطط له "فالعراق مدمر، وسورية فقيرة، والأردن يطلب المعونة، ومنظمة التحرير في أسوأ حالتها وبين العرب منبوذة، وبقية العرب معتدلون معنا ولن يخرجوا عن إرادتنا، ولم يعد هناك اتحاد سوفيتي فعلى إسرائيل أن تنتهز الفرصة لتفرض السلام الذي تريد."

إذن فالحصار علينا مطلوب، والترحيل لنا مطلوب، والتهجير مطلوب، فَرُحِّلَ من رُحّل. وجفت الموارد، وطرد من طرد، وأهين من أهين، واغتصبت النساء، ووصل المبعدون الجدد إلى صحراء الأردن، وإلى ثلوج كندا، ومرتفعات بوليفيا، وأدغال البرازيل، وجنوب استراليا.وأوصدت في وجه الفلسطينيين كل أبواب العالم العربي.

فدهاليز المطارات تشهد بذلك، ودهاليز السجون لن تنكر ذلك، فكم من طائر لم يجد له مهبطاً. وكم من مارٍ أُهين ورُحل، وكم من مسافر أسئ له ولم يجد له مرفأ في ثغور الوطن العربي الكبير على كثرتها.

من المسؤول عن وصول عجوز في التسعين من عمرها إلى بوليفيا لتجد لها مقراً لم يوفره لها أخوة الدم والدين.وكم من طفل كتب عليه أن يتعلم الانحلال في مدارس الشرق والغرب.. وكم من فتاة.. وكم... وكم.

حصار سياسي. وهجوم إعلامي.. وشح اقتصادي، في أرض الداخل والخارج في السجن والمعتقل.. حدود مغلقة. وأبواب موصدة. وألسِنةٍ حداد أشحةً على الخير.. واتهامات جارحة وتهجير، ووثائق لا تسمح لمن يحملها بالعبور، أو المرور، وسؤال يرددونه ماذا تريدون ألا تعرفون!!!

لقد عشنا فلسطين بكامل ترابها. فقد رفضنا التقسيم، كما رفضنا المشاركة في الحكم، وظللنا نرفض كل مرة.. نقاوم يوماً ونستنجد بالأخوة يوماً، وتاريخنا حافل بالبطولات والتضحيات.

كنا نتصدى للمؤامرات البريطانية والصهيونية.. بكل لجانها، وتقسيماتها وعروضها. وجاء برنادوت وحاول التقسيم ولكن اليهود قتلوه لأنه حاول أن ينصفنا، وجاءت الحرب وخضناها وكنا نملك 94% من أرض فلسطين.. وجاءتنا الجيوش العربية وسحبت من أيدينا السلاح وصادرته وهُزِمت وهزمتنا. وضاع ما ضاع ثم تلاه بعد سنين كامل التراب وضاع... ضاع.

من رفض إلى رفض عشنا، لأننا كنا نجد لنا بين الجماهير العربية سنداً، وبين الدول المحيطة بنا معيناً، أما اليوم فقد أقفرت الدار.. وحل القحط، فمعينُ الأمس أصبح لنا دافعاً نحو هاوية السلام أو الاستسلام.وجماهير الأمس غير جماهير اليوم، نخر فيها سوس الإقليمية والذاتية.. وأصبحت مخدرة أو شبه مخدرة.

إن التاريخ إن غفا لحظة فلن ينام أبدا، ويوم تنشر السجلات والصحف، يومها تسود وجوه وتبيض وجوه يومها سيسجل التاريخ لكل موقفه وعندها سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

وتسألون ماذا تريدون... ألا تعرفون؟!!!

نريد أرضا نقف عليها، كما لكم.. نريد هوية، كما لكل البشر هوية، نريدها فلسطينية، لا عربية. نريد أن نشعر بين أخواتنا أننا مثلهم عرب، مثلهم بشر.. بل نحن خير البشر "فنحن مرابطون إلى يوم القيامة". نحن أهل الرباط في أرض الرباط.

مللنا المَنّ علينا بما لم يفعلوا، فقد خجل الغرب من أن يَمُنَ علينا بهباته، وهم ليسوا عرباً وليسوا مسلمين.. أما أولئك الذين أنفقوا في سبيل الله ولم يلحقوا ما أنفقوا مناً ولا أذىً، ولم يتاجروا بدم أبنائهم.. فلهم أجرهم عند ربهم.. ولا خوف عليهم.. لهم جناتُ عدن ولهم علينا الوفاء والعرفان إلى يوم يبعثون.

لقد قلتم لنا أنكم تعبتم منا، "دفعنا لكم قاتلنا عنكم" ونسوا وتناسوا أن قتالهم لم يُعِد لنا شِبراً ولم يحرروا لنا أرضاً لا بأموالهم، ولا بأولادهم، ولا بأسلحتهم، ولا بجيوشهم، نحن الذين قُتِلنَا في الأردن، في سورية، في لبنان، في الكويت.. في كل مكان.....

قاتل أطفالنا بالحجارة حجارةُ أرضنا ولم يستوردوها، قاتلت نساؤنا وقاتل رجالنا في داخل أرضهم دفاعاً عن مسرى الرسول وأرض الأنبياء، دافعوا عنا وعنكم وعن العروبة والإسلام. ولم يمنوا بدم شهيد.. فدم الشهيد أسمى من كل المتاجرين و التجار...إنها تجارة مع الله.. و من أجل الوطن.

وتشدق المتشدقون بالدعم. وتغنت الإذاعات والتلفزيونات بالأعمال و الامجاد العربية التي لم يصنعوها بل صنعها الفلسطينيون بحجارة أطفالهم. بدم شبابهم و نسائهم و رجالهم. إنهم مرابطون مرابطون إلى يوم القيامة.

 فهل النصر عربي الهوية!!!. والهزيمة فلسطينية الجنسية!!!.

أتطلبون منا الصمود،وتحجمون عن دعم الصامدين، إن دراهم معدودة لا تكفي لشراء صاروخ. وأن كيس الطحين لن يحرر أرضاً وإن البطانية لن تعيد لنا شبراً.

لقد قال صلاح الدين يوماً إلى العرب والمسلمين. "إنني بحاجة إلى سيوفكم ولست بحاجة إلى دعائكم و دعواتكم" و نحن اليوم في عهد لم يعد للسيوف فيه مجال أمام الدبابات والصواريخ والطوربيدات، والليزر، و التحكم عن بعد.. نحن في عصر لا تُحتَرمُ فيه لا السيوف، ولا الدعاء، ولا الخطباء، ولا حتى الكُتاب. إن الاتفاق لا يرضيني ولكني لا أرفضه.. فأنا في حاجة.. إلى موطئ قدم، في حاجة إلى أرض، في حاجة لهوية.. في حاجة لأخذ قسط من الراحة تحت شجرة برتقال أو شجرة زيتون.. أنا في حاجة .. أنا في حاجة حتى لا أسأل لئيماً حاجة.

*  تكلفة حرب الخليج وفي تقرير آخر 860 مليار منها 95 مليار نقداً لأمريكا.